بقلم سمر ثوابتة
خلفية تاريخية
تعيش المرأة الفلسطينية في سياق واقع فرضه الاحتلال على الفلسطينيين الذي لطالما كانت شهيته مفتوحة على قتل النساء الفلسطينيات، إذ كان يرى فيهنّ عدواً يحمل في رحمه الأجيال الفلسطينية القادمة، وأنهنّ قادرات على المقاومة بشكل دائم من خلال إعادة تشكيل "العائلة" كونها البنية التقليدية والأساسية للمجتمع الفلسطيني، وبالتالي لا بد من إبادتهن وانتهاك أجسادهن، وهذا ما دفع الاستعمار إلى بناء منظومة من العنف التمييزي قائمة على أساس الجنس والنوع الاجتماعي لاستهداف إنسانيتهن وأنوثتهن، الأمر الذي ظهر في أحد تصريحات رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أريئيل شارون الذي قال: "المرأة الفلسطينية والطفل خطران أكثر كثيراً من الرجل، لأن بقاء طفل واحد معناه استمرار عدة أجيال وكما حدث مع النساء اللواتي بُقرت بطونهن في مجزرة دير ياسين سنة 1948، ومع النساء اللواتي كن يعملن في قطاف الزيتون في مجزرة كفر قاسم، وما تلا ذلك من ممارسات استعمارية طوال السنوات الماضية استهدفت مناحي حياتهن كافة، من خلال الاعتقال والقتل وتجريدهن من حقوقهن الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى وجود نظام اجتماعي ذكوري قائم على اللامساواة الجندرية، كل هذا تشابك بشكل أو بآخر مع أنظمة القمع المضطهِدة للنساء، الأمر الذي فرض عليهن جملة من التحديات والصعوبات من خلال تغيير الأدوار التي تؤديها النساء داخل المجتمع وفي مواجهة النظام الاستعماري لمواجهة هذا القمع.
وفي خصوصية المجال الجغرافي الذي فرضته سياسات الحصار والإغلاق من جانب سلطات الاستعمار على غزة منذ حزيران/ يونيو 2007، عانت نساء غزة بشكل كبير جرّاء هذا الواقع، الأمر الذي فرض عليهن تحدياً جديداً في ظل واقع معقد تتشابك فيه الأعباء الاقتصادية والاجتماعية، وترتفع فيه معدلات الفقر والبطالة، إذ سُجل وجود فجوة بالغة بمقدار 11.1 نقطة مئوية لمصلحة الأسر التي على رأسها إناث بنسبة بلغت 30.6% في مقابل 41.7% للأسر التي على رأسها ذكور. كما أنه كان يوجد أكثر من 1000 أرملة يعملن على إعالة أسرهنّ بسبب استشهاد أزواجهن خلال الحروب السابقة على قطاع غزة.
نساء غزة في مواجهة حرب الإبادة
في تصنيف الحروب الاستعمارية، فإن حروب مكافحة التمرد "التي عادة ما تسمى بالأنثوية" تتمحور، في الأساس، حول استهداف السكان والبنى الاجتماعية، وبالتالي تحويل كل أحياء المدينة إلى ساحة معركة ومحط استهداف مركزي، ما يعني أن مجالات الحياة الخاصة التقليدية، كالمنازل والمستشفيات والمدارس، والتي تُعتبر مجالات طمأنينة وأنثوية كانت هي الشاهدة على قتل وإبادة النساء في غزة.
وفي حروب مكافحة التمرد التي تنطلق من فرضية أن النساء مركزيات في صنع السلام كونهن أكثر نبذاً للعنف وتغلب عليهن العاطفة، وأكثر تقبلاً لثقافة التسامح والحوار، ومن السهل إشراكهن في عمليات بناء السلام،وبالتالي تفكيك البنى التحتية لمجتمع المقاومة، ومع بدء الاجتياح البري واقتحام الأحياء السكنية والمنازل، أعادت إسرائيل استخدام سياساتها المتمثلة في اعتقال جميع الرجال، والإبقاء على النساء والأطفال في محاولة لتفكيك دورهن وصمودهن من خلال إجراء حوارات تدفعهن إلى نبذ المقاومة، أو إجبارهن على ذلك بقوة السلاح، وتصويرهن، وابتزازهن، أو من خلال إقناعهن بأن إسرائيل ستقدم لهن الأمان، إلاّ إن النساء رفضن الخضوع أو الانسياق لأوامرهم، الأمر الذي أدى إلى اعتقالهن، أو قتلهن، أو اختطاف أطفالهن، أو قتل أزواجهن وعائلاتهن، وخصوصاً في مناطق شمال غزة ومَنْ بقي فيها في سبيل تكريس حالة من الصمود المجتمعي من خلال رفض مخطط التهجير القسري الذي مارسته دولة الاحتلال.
ومع بدء الاستهداف الإسرائيلي لقطاع غزة في السابع من أكتوبر من العام 2023، بدأت تخرج إحصاءات وزارة الصحة بشأن أعداد الضحايا، التي اتضح أن في معظمهم من النساء والأطفال. وبحسب إحصاءات الوزارة (24 كانون الثاني/يناير)، فإن 70% من إجمالي عدد الضحايا، بمَنْ فيهم شهداء وجرحى، هم من الأطفال والنساء، الذين جرى استهدافهم داخل منازلهم أو في أماكن لجوئهم، مثل المشافي ومدارس الإيواء وغيرها. وفي شهادة للصحافية مها أبو الكاس تقول: "تم استهداف المنازل المجاورة لي بدون سابق إنذار ما أدى إلى إصابتي أنا وأفراد الأسرة. الدرع والخوذة الخاصين بي تحت الركام، توجهت بعد ذلك للاستمرار بالتغطية الإعلامية."
مستقبل نساء غزة عقب الحرب
بعد الحرب على غزة وانعدام الرعاية، ينتظر النساء مستقبلاً معقداً يتسم بالتحديات الصحية والنفسية. ومن المتوقع زيادة مستويات التوتر والاكتئاب، مع نقص حاد في الرعاية الطبية وتزايد حالات الإصابة. كما قد تؤثر الحرب في فرص العمل والتعليم للنساء، الأمر الذي يتطلب جهوداً من أجل إعادة بناء الاقتصاد وتعزيز الشبكات الاجتماعية. وتحتاج النساء إلى رعاية طبية فورية وبرامج دعم نفسي للمساعدة على تخطي آثار الحرب وتحسين جودة حياتهن، مع التركيز على تعزيز حقوق المرأة ومكافحة العنف الجنسي.
وقد أظهرت حرب الإبادة الأخيرة على غزة أن واقع النساء قبلها وخلالها بالغ الصعوبة، إذ كنّ ضحايا رئيسيات للعنف والاستهداف الممنهج الذي أطلقته دولة الاستعمار الصهيوني. ويُظهر استمرار الاستهداف العنصري بحقهن والانتهاكات الجسيمة لحقوقهن بوضوح كيف تُعرَّض هويتهن وأجسادهن للتشويه بشكل فظيع.
لقد سعت دولة الاستعمار إلى تسيس أجساد النساء واستهداف إنسانيتهن كأدوات استعمارية. وفي سياق حروب الإبادة يُعَدُّ استهداف أجساد النساء وتحويلها إلى ساحة معركة جنسية أداة فعالة لتحقيق أهداف سياسية واستعمارية، يشمل ذلك تعريضهن للتشويه الجسدي والنفسي والاعتداءات الجنسية الوحشية، ما يخلق بيئة من الخوف والهمجية تؤثر بشكل كبير في حياتهن وخصوصيتهن.
وعمل الاحتلال والصراع إلى استهداف أجساد النساء، بصورة خاصة، وتشويهها، بعدما جرى عسكرة جنسانيتهن وأمومتهن التي عايشنها تحت وطأة الحصار وقوة النار والحرب، كما جرى استغلال هويتهن الجنسية كوسيلة لتفتيت الهوية الوطنية وتفكيك البنى الاجتماعية المقاومة.